"مشاركة غريب"

 عنوان العمل: مُشاركةُ غريب. 

نوع العمل: قصّة قصيرة. 

إسم الكاتب: مريَم عادل. 

المُحافظة: الجيزة. 

#مُبادرة_سُفراء_الكتابة_لدعم_المواهب. 


أُنيرتِ الشوارعُ بِزينةِ العيد، تعالتْ أصواتُ الباعةِ فى الأسواق، هذا يُخفضُ السعرَ إلى النصف، وهذا يزيدُ السعرَ إلى الضعف. صدحَت ضحكاتُ الأطفالِ فى الشوارعِ يُغنونَ ويدورونَ فى حلقاتٍ صغيرة حولَ نارٍ مُشتعلة، وعجَّ كُلُّ مكانٍ بالصخب.


كانَ الجوُّ باردًا، والنسيمُ يصفعُ وجهَ العشرينيِّ الَّذي طالعَ المشهدَ البهيج -الذي وبطريقةٍ ما هوَ ليسَ جزءًا منه- بمَقت، أحالتْ ذِكرياتٌ سوداءٌ حبَّهُ للعيدُ إلى مقتٍ شدِيد. هذهِ هيَ شقتهُ الجديدة، وهذهِ هيَ حياتهُ الجديدة، عليهِ الإعتياد؛ فهكذَا يقسُو القدَر.


أعتقتْ شفتيهِ زفرةً حارة، أودعَ بها جزءًا هيِّنًا من همَّه، وكيفَ لا تختزنُ عيناهُ دموعًا جاهدتْ لِتُسكَب وهوَ وحيدٌ تُعانقهُ نظراتُ عائلتهِ من السماء؟



ارتمى بجسدهِ المُنهك على الفراشِ الفسيح، تبعثرَ شعرهُ وتسابقتْ أدمُعهُ أيّهم يهلكُ أوّلًا، وهرجُ الناسِ فى الخارجِ يُداعب مسمعه، كأنّهُ يُغيظُه. 

ليالِي العيد المُبهرجةِ أضحَت باهتةَ الألوانِ، قاسيةُ الوقعِ على فُؤادهِ السَّقيم. 


انتفضَ جسدهُ جزعًا حينما تنامَى إلى مسامعهِ صوتُ طرقٍ قويٍّ على الباب، فنهضَ بتكاسلٍ، وهمَّ بفتحِ الباب، لم يُكلِّف نفسهُ عناءَ إخفاءِ مظهرهِ البائس عنِ الطارق، فلا أحدَ يعرفُ عُنوانَهُ الجديد على كُلٍّ، ولا ضيرَ من الظهورُ أمامَ أحدٍ لا يعرفهُ بمظهرٍ بئيسٍ كهذا. 


حُمَّلت يداهُ بكيسٍ بلستيكيٍّ ثقيلٍ بغتة، وعمَّ الصخبُ أرجاءَ الرُدهةِ إثرَ صياحٍ مُستهجنٍ صدرَ عنِ الطارق، والتي اتضحَ أنها أُنثى.. أُنثى قويةٌ قليلًا. 


” اُعذر استهجانِي وفظاظتِي من فضلِك، هذهِ هديةٌ بسيطةٌ كترحيبٍ ويمكنكَ إعتبارُها هديةً بِمُناسبةِ العي- ها؟ “

نبسَتِ الشّابةُ اليافعةُ بسرعةٍ وعيناها تتجوّلانِ بينَ الأكياسِ الكثيرةِ بينَ يديها، وحالما رفعتْ عينيها انقطعَ صوتُها ومعهُ اصطحبَ جحوظًا لزِمَ جفنيها، فما اللّعنة؟


-


انفرجتْ أساريرُها المُنقبِضة، ودوَى شهقاتِها يتردَّدُ فى الممرِ الفارِغ، لم تُصدّق عينيها، فامتدتْ أناملُها تقرصُ ذراعهَا لتتأكّدَ من صحةِ نظرها فاعتقتْ آهةً مُتألمة كردةِ فعل، وتلاحقتْ أنفاسُها بلهفة. 

" يا إلهى يا إلهى، هل أحلم؟، أهذا أنتَ حقًا؟، أنتَ.. كريس؟ "


راقبها بفتورٍ وامتِعاض، إلّا أنّ فتورهُ سرعانَ ما تحوّلَ دهشةً وذهولًا حينما ارتمَت عليهِ بغتةً تُحيطُ جسدهُ الكبيرَ بينَ ذراعيها كأُمٍ حصلَت على ابنِها الأول بعدَ طولِ انتظار، مُتسببةً في ارتطامِ رأسهِ بالطرفِ الحادِ للباب بعنفٍ انشغلَت هيَ عنهُ بنسجِ كلماتِها بسعادةٍ غامِرة.

" لقدْ أقسمتُ ألَّا تُفارقَ حُضني إذا ما رأيتُك!، شكرًا جزيلًا يا إلهي، إشتقتُكَ كثيرًا يا فتَى."


شعرَتْ جودِيث باستكانةِ جسدهِ المُباغِتة، ففطِنت إلى استسلامِهِ لها، وتسلَّلتِ ابتسامةٌ إلى شفتيها، إلّا أنَّ سعادتَها لم تكتمِل، فلقد شعرَت بارتخاءِ جسدهِ وميلهِ عليها بشكلٍ غريب أرعشَ أطرافهَا، وتجمَّدتِ الدماءُ في عروقها حينما تهاوى جسدهُ فجأةً على الأرضيّة. 


ناظرتهُ من عُليٍ وقلبُها يضربُ أضلُعها بسرعةٍ جنُونية، تسارعتْ أنفاسُها، أسدلَت جفنيها تحاولُ تمالكَ نفسِها ومُوقفةً ارتجافَ ساقيها بأخذِ نفسٍ عميقٍ تُنظِّم بهِ نسقَ تنفُّسها السرِيع، هذا سهل.. لا بأس، مرَّت بتجاربٍ أسوء، هذا مجردُ إغماءٍ عاديْ، لا بدَّ أنهُ لم يتناولَ طعامهُ جيدًا فحسب.. لا شيءَ يدعو للقلقِ بتاتًا. 


جثَت قربهُ تتلمسُ عنقهُ مُتحسسةً نبضهُ بأناملٍ مُرتعشة، نبضهُ ضعيفٌ إلّا أنّهُ سريع.. أيعقُل!


أدارت جسدهُ للجانبِ بصعوبة، حتَّى استوقفتها بقعةُ دماءٍ قانيةٍ أسفلَ رأسه كانَت تتسعُ ببطء، تسمَّرت عُشبيتيها عليها بهلعٍ ونفسُها لا تفتأُ تلُومها، هيَ السّبب، وعليها تصحيحُ خطئِها. 


استعادتْ اتزانها مجددًا ونهضتْ على قدميها ونظراتُها تلمعُ بالعزيمة. ركضَت مُسرعةً إلى شقةِ جارٍ تعرفهُ، ثمَّ عادت وهوَ معها تُحادثهُ بحزمٍ وهيَ تتجهُ نحوَ كريس المُستلقي بإعياءٍ على الأرضيةِ البارِدة.

" ساعدني في إدخالهِ إلى شقتي سريعًا، يجبُ أن نُوقفَ النزيفَ حالًا. "


أومأ ستيڤ وهو يُحيطُ خصرهُ بذراعهِ القويةِ ويرفعهُ برفقٍ وجودِيث تضعُ ذراعهُ على كتِفها تُساندهُ من الناحيةِ الأُخرى. استطاعا بطريقةٍ ما وضعهُ على السرير، وركضَتْ هيَ مُسرعةً نحوَ رفٍ حملَ عُلبةَ اسعافاتٍ أوليَّة وأحضرتهُ ونبضاتُ قلبها تتزايدُ معَ كلِّ خُطوةٍ تخطوها. عليها فعلُها، لم تكُن طبيبةً عن عبَث. 

" سأضطرُ آسفةً إلى استغلالكَ قليلًا ستيڤ، ولكنَّني أحتاجُك.. أحضِرِ المصباحَ الصغير، تجدهُ على مكتبِي هُناك.. وأُحذّرك، لا تقترب منَ المريضِ مهما حدث،  فأنتَ لستَ مُعقَّمًا وإلّا قتلتُك، تجاوب معي وأعطِني الأدوات سريعًا، ولا تنسى إحضارَ الشاش من دُرجِ الخزانةِ هُناك. كُن جاهزًا لأيّ ظرف! "


أومأَ الشّابُ بجوارِها بملامحٍ مُتوترة، فتنهَّدت باستسلامٍ وبدأَتِ العملَ بتركيز. 


-


استيقظَت حواسُ كريس المُرهق معَ أولِّ أشعةٍ للشمس، وشعرَ بالخدرِ يسري في جسدهِ الثقيل، وبِالألمِ يعصفُ بِمؤخرةِ رأسهِ حتَّى كادَت تنفلقُ نصفين.


استوطنَ الالمُ وجهُ الشّاحِب، ووأدتْ عينيهِ نظرةً استطلاعيةً حولهُ فأعمتهُ خيوطُ الشمسِ المُتسربةِ منَ النافذةِ التي وصلتهُ بالحياة، الحياةُ التي لطالما لفظَته.


فورما أُتيحَ لعينيهِ إبصارَ مُحيطهِ أبصرَ سقفًا مُصطبغًا بلونٍ ورديٍّ خلافَ سقفهِ الدَّاكن، غيرَ أنّ الفراشَ الذي كانَ يرقدُ عليهِ مُلئَ بأنواعٍ شتّى منَ الوسائدِ المنفوشَة -الّذي لم يكُن مُهتمًّا بها قبلًا بالمُناسبة- وهُنا أدركَ أنّه حتمًا ليسَ في شقّتِه. 


" لا تفزع، أنتَ بخيرٍ الآن.. سوفَ يتماثلُ جرحكَ للشفاءِ قريبًا فهوَ بسيطٌ لحسنِ حظّك، أنتَ الآن في شقّتي، لم اقتدِر على ترككَ في مشفىً غريب، وصراحةً إنني لا أثقُ أنكَ ستكونُ مُرتاحًا في مكانٍ غريب رِففةَ تلكَ الوجوهِ الّتي تُثيرُ الأعصاب.. لاسيما إن كانَ مشفىً بمستوىً مُتدنٍ كالمُتواجدِ هُنا."


سكبتْ جوديث حديثًا طائلًا استهلكَ أنفاسها بحماس، تكادُ لا تُصدّقُ أنها تراهُ أخيرًا بعدَ كُلّ هذهِ السّنوات. 


خيّمَ صمتٌ لم تحبذهُ على الأجواء، يتخللهُ صفيرُ أنفاسهِ الهادِئة، تشرّدَت نظراتهُ على قارعةِ السماءِ في الخارِج، لم يدرِ عنها، ولم يملكِ الحيّزَ بعقلهِ المُزدحمِ بالأفكارِ لِيفعل.


" تبدو مُرهقًا، لاحظتُ أنّ الإعياءَ أصابكَ لسوءِ التغذيةِ إلى جانبِ الجُرح، لذا حضّرتُ لكَ حساءَ خُضراواتٍ سيُساعدكَ على استردادِ عافيتِك سريعًا! "


صفعها بصمتهِ فتموضَعتْ غُصّةُ النحيبِ في حلقِها، مُنذرةً بنوبةٍ حادّةٍ منَ البكاء، نوبةٌ قادرةٌ على تجفيفِ مدامِعهَا لمدًى مديد.


انتصبَ ظهرُها وأولتهُ إيّاه، وعلى شفتيها ارتسَمتِ ابتسامةٌ مُنكسِرة، وحاولت أن تشغلَ نفسَها المُحطّمة بترتيبِ المكانِ من حولهِ كي يحظى بأكثرِ الوضعيّاتِ راحةً دونَ أن يتضرّرَ جُرحه. 


" شكرًا. "


تيقّظت حواسُّها وتحفّزت جراءَ التقاطِ أُذنيها لهذهِ الكلمةِ اليتيمة، حتّى ظنّتها ضربًا منَ الخيال، فهل آنَ الأوانُ لِتسمعَ نغماتهِ الهادئة التي رُبّما تسرّبَت خطأً من بينِ شفتيهِ الآن؟ 


" لستُ أُجيدُ إلقاءَ الكلماتِ المعسولة، رُبّما تظُنينِي مُنافقًا أو نرجسيًّا، إلّا أنّ جيبي فارغٌ منَ الكلمات، فلقدِ استهلكتُها فيما لا يُفيد، وها أنا الآنَ أقِفُ ذليلًا لا أجدُ ما أهِبَكِ إيّاه، أنا الفقيرُ منَ الكلِمات."


معَ كلِّ حرفٍ تُنجِبهُ شفتاهُ ينتابُها شعورٌ بالجزَع، لا لحساسيةِ نفسِها، بل لألمهِ المُتخفِّي بينَ السطور.


كلما نسجَت شفتيها كلمةً مُزِّقت خُيوطهَا أمامَ نظراتِهِ الخاوِية، ليبادرَها هوَ بنصفِ ابتسامة، أبعدُ ما تكونُ عنِ السّعادة، بدا وكأنّهُ يُحدّثُ نفسهُ لا هيَ. 


" على كلِّ امرئٍ أن يتذوّقَ صاعًا مما اقترَفتهُ يداه، وذنبي أنّني تمسّكتُ بأطرافِ الحياةِ الواهِية، فتمزَّقت أنسجتُها حتّى أُحيلت خيوطًا من شأنِها أن تُكبّلَ عُنقي، فأختنقَ حتّى الموت. "


استرسلَ ومُحيطيهِ يُسكبانِ على نُقطةٍ وهميّةٍ في الفراغ.


" تنفّستُ حتّى ضِقتُ ذرعًا منَ التكرَار، روحي خاوية، أذكرُ ألمامًا منَ الماضي، تطرقُ بابَ ذكرياتي الدّاكن ثمَّ تهرُب، تتبادرُ إلى ذهني تساؤُلاتٌ عدّة، لا أملكُ من يُجيبُ عليها ويُطبطِبُ على عقلي المُرهقِ منَ التّفكير، أكانتْ هذهِ نفسي في الماضي؟، أكانتْ روحي بيداءً قحلاءًا كما الحالُ في الأوان؟ أم أنّ الزّمنَ أضافَ خيوطًا منَ النسيانِ لرداءِ حياتي؟ "


انجبتْ شفتيها جملةً كفيلةً بإضرامِ الحرائقِ في نفسيهِما، ونظرُها زورقٌ يطفو على سطحِ محيطيه، زورقٌ لن يصلَ إلى القاعِ أبدًا.


" حينما تفقدُ عزيزًا، يُضحي قلبُكَ رمادًا، تذروهُ رياحُ الخيبَة. " 


-


رغمَ أنّها لم تُحِط علمًا ببأسه، إلّا أنّ كلماتهِ تختزِنُ حزنًا طائلًا، شاهقٌ فلا تُدرِكهُ الأفئِدة. 


توالتْ أحداثُ يومِها تباعًا روتينيًّا، عدا أنّ ذهنها شاردٌ في الآفاقِ حيثُ لا يصلُ أحد، عملُها كطبيبةٍ في مشفًى حكوميٍّ جعلَ التفكيرَ عليها عصيًّا، بالكادِ تُحافظُ على أعصابِها من الإنفلات حتّى اللحظة. 


" جوديث، أنا أُحادثكِ هُنا! "


انبثقَ صوتٌ منَ اللاشيءِ ليفقأ فُقاعةَ أفكارِها، فأحادت جسدها عنِ طاولةِ الكافيتيريا الصاخبَة قِبالةَ مُحدِّثتِها سوزي، تلكَ الشقراءُ الجذَابة، التي ما إن تصرِفُ خطوةً من رصيدِ خُطواتِها المائِعة حتّى تلتهِمٌ أعينُ الرجالِ جسدها كالحيواناتِ الجائعة.


" عُذرًا، عمّا كنتِ تتحدّثين؟ "


" قليلٌ منَ الرحمةِ يا إلهي، لقدْ هرِمتُ وأنا أطلبُ القليلَ من وقتكِ لنُزهةٍ بعدَ الدوام، وأنتِ تتسائلينَ عمّا كنتُ أتحدّث؟! "


" اعذريني، سأضطرُّ آسفةً أشدّ الأسفِ أن أرفضَ عرضكِ، فإنّني أستضيفُ صديقًا قديمًا، ولا أستطيعُ تركهُ واللهوَ خارجًا، نتنزّهُ في وقتٍ لاحق. "


ارتدتْ شفتيهَا العبوسُ قناعًا بطريقةٍ تنمُّ عنِ انزعاجِها من رفضِ الماثلةِ قبالتهَا، ثمّ نهضَت لتأخُذَ بخطواتِها لإحدى صديقاتِها الكُثر. 


انتهى الدوامُ قرابةَ التاسعةِ مساءًا على غرارِ العادة، فانتصبَ جسدُها كالرُّمحِ في المعركة، وسابقَتْ بساقيها الطويلتانِ الرياحَ بتهوُّرٍ حتَّى كادت روحُها تُزهَقُ دعسًا، فرَّ الوقتُ من بينِ يديهَا كالفارِّ منَ الموتِ حينما انعطفتْ فجأةً لتغيِّرَ مسارها، ومشهدٌ كالطّيفِ لمطعمٍ قريبٍ يمرُّ بذهنِها، فلا هيَ قادرةٌ على الطبخِ ببدنِها المُرهق، ولا هيَ قادرةٌ على تركهِ جائعًا.


ابتاعتْ طعامًا لشخصين، فبادرَها الشابُّ على الكاشيرِ بدهشةٍ وحيرة.


" ربّاه، لقدِ كدتُ أقيمُ عُرسًا حينما توقفتِ عن تناولِ وجبتينِ كلَّ يوم، ألا ترينَ كيفَ صرتِ نحيفة!، توقفي عنِ الأكلِ بشراهة رجاءً، سيخرجُ قلبكِ من معدتكِ يومًا. "


هبطَت يدُها على رأسهِ تؤنّبهُ بانزعاج.


" توقف عنِ الثرثرةِ كاي وأعطِني الباقي، أيُّها الوقِح. "


بعدَ بُرهةٍ منَ التخيُّلاتِ القذِرة، خرجَ باستنتاجٍ كادَ يمحيهِ من على وجهِ الأرضِ لولا استعجالُها.


" آآه فهمت، إنهُ حبيبُ القلبِ أخيرًا، متى حصلتِ على خليلٍ أيتها الخائنة، مهلًا.. من قدِ يقبلُ بأُنثى -أشكُّ أنّها كذلِكَ في الواقِع- خشنةٍ مثلك؟، ترحُّماتيَ عليهِ منذُ الآن! "


لم تمنحهُ إجابةً تسدُّ فضوله، مُقابلَ صمتِها منحها الكيسَ وبقيّةَ نقودِها بابتسامةٍ خبيثة، تليقُ بعقلهِ النتِن. سارعتْ إلى المنزلِ تلهثُ بِتعب، بعدَ أنِ استهلَكت أنفاسها في مُسابقةٍ معَ الزّمن، ووسطَ عمليةِ استرجاعِ أنفاسٍ نهبها الركضُ إيّاها توقفَ عقلُها عندَ فكرةٍ واحدةٍ بغتة.. 


فلرُبّما ذهَب!


تعثرّت بخطواتها في غُرفةِ الجلوس وتلكّأت، تُأخّرُ الموعدَ الفاصِلَ بارتباك، ماذا إن لم تجِده؟


بينهُما جِدار، جدارٌ هي أوهنُ من أن تخترِقهْ.


وبينما هيَ تتخبَّطُ بينَ فكرةٍ مأساويةٍ ومثيلاتِها، اقتحمَ صوتٌ ما خُلوتها، صوتُ نحيبٍ عميقٍ جمّدَ خلاياها، تخلّى عقلُها عنِ التفكير، وتخلّت قدماها عنِ التؤدة، فاقتحمتِ الغرفةَ بأنفاسٍ مسحوبة، ارتطمَ البابُ بالحائطِ بقوة، كما تخبّطَ قلبُها في قفصِها الصدريُّ في هلع، أبصرتهُ جالسًا إلى السريرِ تُحِيطُ يداهُ برأسِه، مُنغَمسٌ في بُكاءٍ مزَّقَ نياطَ قلبها، أعدَمَتِ الخطواتَ بينهُما، فبدتِ المسافةُ أميالًا، كلما آلت إلى الوصولِ تراجعتْ مائةَ خُطوة، وبدتْ تُخبرها أنّها مهما جاهدَت لن تصل. 


أراحَت كفّيها على ظهره، تُطبطبُ عليهِ ويزيد، استشعرَت خطبًا ما، ما اقتدرَ قلبُها على استدراكهِ قبلَ أن يتفاقَم. 


كُلّما حاكَت جُملًا فقدتْ إحدى ابرتيها، ابرةٌ هيَ صوتُها الّذي ما لبثَ أنِ انبثقَ مهزوزًا كفروعِ شجرةٍ تهزُّها الريَاح.


" لا أدرِي ما حلَّ بِك، ولستُ أوهِمكَ أنّ كلَّ شيءٍ سيكونُ بِخير، فلا شيءَ بخيرٍ في هذا العالَم، لكِن مهما حدَث، فعلى الحيِّ أن يعيش، لا أن يموتَ مائةَ مرةٍ في اليومِ لأنّهُ فقدَ شيئًا، ولو كانَ شخصًا، احزَن.. ابكِ، افعل ما يحلو لكن لا تمُت وأنتَ على قيدِ الحياة، قم بما تتطلبهُ حياتُك، اعمَل بجدٍ، املأ سجلَّكَ في الدّنيا أشياءً تفخرُ بها، فمآلكَ الزوالُ في النهاية، لا تنسَ أنّ هُناكَ قدرٌ لا ولن يتغيّر، لا تنسَ أنّ لكَ دورًا في الحياةِ يجبُ أن تقومَ بتأدِيتِه، فلكَ في النهايةُ راحةٌ لا بُدّ أن تقترنَ بِها، وإن لم تحصُل عليها، فقدْ تتمثّلُ في الفناءّ وحسب، لا أحدَ يعلمُ ما ينتظِرُه، فلا تيأس، إنّما اليأسُ سبيلُ الضعيف، فلا تكُن ضعيفًا واستمرَّ بالقتال!، الحياةُ معركةٌ لا طرفَ فائزٌ -أو خاسرٌ- فيها سواك، سواكَ وأنتَ تُقاتل، لا وأنتَ جالسٌ على قارعةِ الطريق، تنتظرُ المُنتصرينَ لِتراهُم ينعمونَ بالراحة وأنتَ تتحسّرُ على حالك!، كلُّ شيءٍ آلٌ للزوال، فلا فائدةَ منَ التحسٌّرِ على ماضٍ هرِم. انهَض، تنفّس، عِش! "

إرسال تعليق

أحدث أقدم

تابعنا على الشبكات الاجتماعية

PageNavi Results No.