"الطب النفسي"

 تتأرجح الحياة بين ماضٍ مستمر فِعله، وحاضر تمحيه الأيام، أُناسٌ مطاردون بأفعال ليس لهم فيها قوتٌ ولا زاد، فقط ضحايا من يمنحون النفس قِسطًا فائض من شرورهم، لا تختلف من شخص إلى شخص ولا من مكان لاخر، كلٌ من بها مؤدي لسلوكٍ واحد، 

مُنذ صغري وأنا أرى الأبتسامات على أوجه الناس متناقضة، لا يُمهلني فقهي حينها في أن أشُك في ثغر أحدٍ منهم، تتابع الأيام وأكبر رويدًا رويدًا وأنغمس في نُضج لا يُحبذ بل أجبرتني عليه قواعد الحياة دون استخدام سلاح الأنسحاب، فقد كانت حروبها صارمة؛ إما الموت بلا شفاعة ما مضى أو العيش في مراحيض الحياة، فقررتُ العيش وسلمتُ نفسي لأول قبع في مِرحاض لا يتسع لعالمين معًا، فكنتُ أنا جزءًا مِنه، منذ أن استلمت شهادة تخرجي _في الطب النفسي _وأتى تكليفي واختارني من بين الجميع لأمكث بقية حياتي في مستشفى:*العباسية العام للمرضى النفسيين* وأنا دائمًا في حيرة من أمري، من هم المرضى الحقيقين!

هل هم المحتجزون في المستشفى؟! أم هؤلاء مجرد ضحايا للمرضى الحقيقين الذين ينعمون بحياتهم بالخارج ولم يخطر على بالهم ولو للحظة أنهم دمروا حياة الكثير والكثير!

وقفت في شرفة المستشفى وتذكرتُ ذلك اليوم، عندما أخبرتني الممرضة بمجيء تلك الفتاة النحيفة، واعتقادي الأول أنها تعرضت لصدمة نفسية شديدة نتج عنها اكتئاب.. توتر.. اضطراب ما بعد الصدمة.. درجات مختلفة من غياب الوعي.. اضطراب في الشخصية.. لكن من وجهة نظر تحليلية معينة، بعض الأمراض النفسية هي في الحقيقة رجوع للخلف ما يُسمى بـ "نكوص/Regression" بمعنى إنه أمام صدمة نفسية شديدة بينتج عنها في بعض الأوقات أن العقل بيقرر الرجوع لأخر مرحلة شَعْر فيها بالأمان والإتزان النفسي، عادةً ما تُكوَّن تلك المرحلة أثناء الطفولة إثر تراكمات طاغية من الأمان المفقود بداخل طفلة صغيرة لا تفقه شيء سوى أنها تُسلب، ولعودة المريضة لطبيعتها الفطرية يجب أن يسترد إليها منبع من الأمان التام التي فقدته على مرور سنوات عِدة، وأظن أن ذلك واجبي أنا وغيري داخل هذا المبنى، ولكن الأصعب من ذلك هو مواجهة حقيقة أن المريض تمكن منه المرض لدرجة أنه أنشأ حول منه جدار عازل في نفسيته عن البشر بطريقة غير واعية تستخدمها الأعضاء وتتحكم فيها عوامل النفسية لحماية الشخص إذا شعر بخطر مشابه لِمَ يحدث له، ويطلق على هذا المرض في الطب النفسي "كتاتونيا Catatonia" وهي كلمة من أصل لاتيني معناها جثة، وهو فعل اعتيادي يستخدمه المريض، لأنه يعتقد بأن هذا هو الوضع الوحيد الذي يشعر فيه بالأمان، وضع الخروج من الحياة بكل سخافتها وضراوتها ومخاوفها.. هو فقط لا يغيب عن الوعي بحلاته المتكررة كـبزوغ حالة من الهيستريا بداخله وتراكم محاور الإنشقاق النفسي، ولكنه يتأقلم مع عدم وجود أحد لدرجة أنه ينفصم وتغيب عنه كامل مشاعره وهرموناته الحسية، "الكتاتونيا" هي أصعب مرحلة من المراحل التي من الممكن أن يصِل إليها أي مريض نفسي، وعلاجها أصعب منها، وفهمها والوصول لمعانيها المختلفة من مريض لمريض أصعب.. الكتاتونيا هي انعدام الحياة النفسية بحثًا عن لحظة أمان واحدة فيها، هي قرار بوقف الوجود من شدة الألم والخوف..

الكتاتونيا هي أعمق درجة من درجات الموت النفسي.. 

في إحدى الجلسات بيني وبين تلك الفتاة بعد معلاجتها قالت: أنه من ضمن أسباب مرضها بعدم الحركة والإنفصال عن العالم هو شعورها بالذنب، لأنها كانت تتصور بذلك أن أي حركة تفتعلها ولو بسيطة تهدم موازين الكون بأكمله.. كلمات ذات نمط غريب وغير مألوف، ولكن تلك هي حقيقة وحشية هذا المرض، الذي تراكم منذ طفولتها وصُدِّر لها أن كل فعل تفتعله مجرد هراء وسبب في أزمةٍ ما، فنتج عنها مريض مُفخخ بالرفض دون المقياس لحالة الطفل حينها، مما أدى إلى وصوله لشعور عميق وساحق بالذنب على كل شيء.. لدرجة أنها شعرت بثقل وجودها لما يدعوها للشعور بالذنب.. فقرر عقلها الباطن دون وعي منها أن يعمل على شل هذا الوجود ويوقف نشاطه ويمنعه من عمل كل شيء وأي شيء.. حتى لا تعيد كرة الخطأ ولا تتعرض للعقاب اللاذع وهو الشعور بالذنب.

كـ/رانـا حـمدان 

نوع العمل: قصة قصيرة

المحافظة: القاهرة

#مبادرة_سفراء_الكتابة_لدعم_المواهب

إرسال تعليق

أحدث أقدم

تابعنا على الشبكات الاجتماعية

PageNavi Results No.